كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم حكى نوعًا من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم {هو أذن} عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية. وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلًا أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث» وكان ينم حديث النبي صل الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئًا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا. وقال السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقًا لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرًا كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان.
قال علماء اللغة: الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنه جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال: {قل أذن خير لكم} بالإضافة كقولهم: رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعة وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة {رحمة} بالجر عطفًا عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما.
ثم بين كونه أذن خير بأنه {يؤمن بالله} أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله {و} هو {رحمة للذين آمنوا منكم} باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولي السرائر ولهذا ختم الآية بقوله: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} وأما من قرأ {أذن خير} بالرفع فيهما فعلى أن الإذن خبر مبتدأ محذوف و{خير} كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله: {يؤمن بالله} إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله: {أذن} وإن كان رافعًا في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله: قل هو أذنا خير لكم.
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه} أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيمًا لله بالإفراد بالذكر، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني {إن كانوا مؤمنين} أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله: {ألم يعلموا} وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله: {أنه} للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلًا منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلًا منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم: هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله: {فإن له} بالفتح أي فحق أن له {نار جهنم} وقيل أن مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل فإن معطوف على أنه وجواب من محذوف وهو يهلك.
قال الزجاج: يجوز كسر أن على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح. ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرئ بالكسر.
قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى: {يحذر المنافقين} وقال مجاهد: كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا سرنا فنزلت.
والضمير في {عليهم} و{تنبئهم} للمؤمنين وفي {قلوبهم} للمنافقين، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون: عن أبي مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله: {استهزؤا} وهو أمر تهديد {إن الله مخرج ما تحذرون} مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله: {ولئن سألتهم} الآية. عن ابن عمر أن رجلًا من المنافقين في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطونًا أي أوسع ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه. فقال واحد من المؤمنين: كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه. وقال الحسن وقتادة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب.
قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم {أبا لله} أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام {وآياته} يعني القرآن {ورسوله كنتم تستهزؤن} لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل أتستهزؤن بالله.
ثم قال: {لا تعتذروا} نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس. واعتذرت المياه إذا انقطعت، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله: {قد كفرتم} أي صريحًا {بعد إيمانكم} أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه.
{إن نعف عن طائفة منكم} ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك الثالث، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل.
قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشي، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهبًا فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذبًا للطائفة الثانية {بأنهم كانوا مجرمين} أي مصّرين مستمرّين على الجرم، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل. ومن قرأ {أن يعف} على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول: سير بالدابة دون سيرت. وقرئ بالتأنيث ذهابًا إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة.
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين. وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم: {إنهم لمنكم} وتقرير قوله: {وما هم منكم} ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال: {يأمرون بالمنكر} وهو كل قبيح عقلًا أو شرعًا وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله.
{وينهون عن المعروف} وهو كل حسن عقلًا أو شرعًا وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان {ويقبضون أيديهم} عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو إتفاق في سبيل الله، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء {نسوا الله} أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم {فنسيهم} جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق.
وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئًا لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم، ثم قال: {إن المنافقين هم الفاسقون} وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يتحرز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال: {وعد الله} الآية ومعنى {خالدين فيها} مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود {هي حسبهم} كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقرونًا بالإهانة والطرد {ولهم عذاب مقيم} نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب {كالذين من قبلكم} أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين {وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم} وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت.
{فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيًا ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثًا؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة.
قال جار الله: نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله: {وخضتم كالذي خاضوا} فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة.
ومعنى {كالذي} كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل: أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين. اهـ.